حوار خاص /د. عبدالكريم الشميري
:في البدء كانت الكلمة حواراً أو جدلاً، تبقى كذلك إلى ما نشاء لها أن تبقى، سيقابله في المعنى والسياق ربما ثنائي (الشعر والنقد) الأمر مثار اهتمامِ الملتقي، حيثما كان وبتوالي حقب تطورها القصيدة .
وإزاء ما سبق سنجد أنّ هذه الثنائية أُشبعت بالكثير من الأقوال لتغدو بالتالي مدخلاً لحوار طويل استساغه شخصي المحاور مع الأديبة الدكتورة نجاح إبراهيم منذ كان أمر الحوار معها مرد فكرة عابرة .
ففي ثنايا الحوارِ مع هذه الأديبة الشاهقة، سيجدُ القارئ ولا شكّ مبتغاه ليس عن هذه الثنائية البديعة فقط، الملتصقة بشخصها ضمن أوجهٍ كثيرة التصقت بها في سياقات عدّة، إحداها مؤلفاتها البالغة اثنان وعشرين إصداراً من الأجناس الأدبية، على توليفة جامعة مذهلة لثلاثة أركان رئيسية للأدب (مخزون ثقافي رهيب، واطلاع لا يقلّ عن هذا المخزون وقرب كذلك من جهابذة الأدب السوري العربي المعروف المسقى لكأنّه في السنوات الأخيرة المنصرمة على يديها بالياسمين الدّمشقي ذائع الصّيت كذيوع صيتها نجاح إبراهيم الشاعرة والناقدة والرّوائية، والإنسانة، وهذه الأخيرة ما كانت لترد في هذا التمهيد من فراغ، فمكنون شخصيتها المتسق مع كتابتها ومؤلفاتها العديدة تؤكدُ ذلك، بل قلما نجده مع أديبات وأدباء من مجايليها. يعزّزه فعلها الملموس كتابتها لمقدمات دواوين شواعر وشعراء من أبناء الوطن العربي، وتحملها نفقات طباعة معظم الدّواوين على حسابها الشخصي، ما يجعلها في الطليعة، وما كتابها الصّادر مؤخراً بعنوان (كأس البلار ) إلاّ الدليل الذي لا يحتاج إلى تدليل، وقبله وكله أنّ هنالك ما يميّزها شأنه حسّها الوطني ليكون درساً للأجيال العربية القادمة عن ماهية حبّها الأوطان .
هذا الحوار لا يقدّم أسئلة بقدر ما يثيرُ أسئلة في فضاءات أسئلة الإبداع الشعري، وعموم أرجاء الأدب، وعن اغتراب الشاعر والكثير مما سيأتي، فقط أدعو القارئ الكريم إلى متابعة الحوار .
أحد الأسئلة :
يقولُ جبران خليل جبران في إحدى كتاباته عن غربته بين بني قومه : أنه كلما التقى رهطاً من الشيوخ فيومؤون نحوي بأصابع مرتعشة قائلين : (هو مجنونٌ أضاع صوابه في مسارع الجنّ والغيلان) .
- برأيك لماذا هذه الصفة – أي الشعور بالاغتراب – تلازمية لدى الشعراء وأرباب الكلمة بمراحل تاريخية مختلفة ؟
- -ج-الاغتراب لا يبتعدُ عن المثقفِ بشكلٍ عام، فهو يشعر بقوّة بالغربة لأنه يُحسُّ بمشروعه النهضوي القومي قد فشل أو تعثر، فكيف بالمبدع؟ الذي تتلون اغتراباته، وتزيد كلما توغل في التأمل، ليشرأب اغترابٌ نفسيٌّ، فالمبدع يشعرُ بأنه لا يمتُّ بصلة إلى عالمهِ، لهذا يسعى إلى إيجاد عالم بديل ، ألا وهو عالم الكتابة .بالنسبة لي أحسستُ بهذا الشعور مذ كنتُ صغيرة ، حين لم يصدق أهلي أنني كنتُ ذات زمنٍ ملكة ، وبسبب سخريتهم نبذتهم ولجأتُ إلى العزلة كرّدة فعل قوية، ومن ثمّ أضأتها بالكتابة تعويضاً عما أعاني، ولحسن حظي أن كانت هناك موهبة تنبت في داخلي وتتبرعم، ومع الزّمن كان وقودها الحزن والألم.وأجدني حتى الآن ما تلاءمتُ مع الوسط بشكلٍ مرضٍ.
وجبران خليل جبران ثمة أسباب كثيرة دفعته إلى الاغتراب الذي ظنّه الآخرون جنوناً، وهل يستحوذ على الجنون سوى البعض، طبعاً يسمى هذا جنون الإبداع .
- أعتقد أنّ معظم الشعراء –إن لم يكن كلهم- مجانين وشعرهم رافل بالاغتراب والوجع لأنهم يحملون آلام الناس، ويظلون في دائرة التفكير بالهموم والمصائب. فحين لا يستطيعون فعل شيء يلجؤون إلى العزلة ، مزدحمين باغترابات عديدة.
- حول الأدب الأنثوي قيل الكثير , كيف للمتلقي فرز هذا التجنيس من عدمه؟ وهل يوجد بالفعل أدبٌ خاص يكتبنه الإناث فقط ؟ ثم كيف جمعت الشاعرة نجاح إبراهيم في شخصها ما يسمى بثنائية (الشعر والنقد) ؟
- ج- إنْ قلتُ الحقيقة ستكون مؤلمة وعاصفة ، وإنْ جانبتها سأخدعُ نفسي. المرأة المبدعة مهما أوتيت من حيادية في كتابتها يبقى نصها مطعّماً بذاتها، وقلة منهن نجون من هذا المطب في بعض أعمالهن وليس كلها، مثل سحر خليفة في رواياتها. إنّ رشّ المنكهات الأنثوية على نصّ المرأة الكاتبة ليس بنقيصة ، وإنّما تستفرد بهذا لوحدها خلافاً للرّجل الكاتب ، هذا عن المرأة المبدعة ، أما الكاتبات الأخريات فلا يمكن أن يتركن بصمتهن إبداعاً ؟ قد تستنكر المبدعات هذا القول لأنّ الإبداع الصادر عن العقل والروح وتصقله الموهبة لا يفرّق بين فكر امرأة أو رجل ، أقول أدب المرأة يشمّ من خلاله هوية كاتبته، إذ يتسم بما تفيضُ عليه من عالمها الساحر الذي يفتقر إليه الرّجل المبدع.
أما كيف جمعت بين الشعر والنقد! فأنا لم أجمع بين هذين الجنسين فحسب،بل بين كلّ الأجناس الأدبية: من قصة ورواية وشعر ونقد ودراسة ومقالة ومسرح، فالذي زرعته في عقلي من مطالعات ومتابعات حصدته صنوفاً مختلفة من الإبداع ، وذلك حسب الفكرة التي أريد ان أصبها ، قد تاتي على شكل قصة أو رواية ، فالغيمة التي تمرّ بي أتركها على راحتها ، تمطر أينما رغبت، وكيفما شاءت.
أما النقد فقد جاء ارتقاءً ، نتيجةَ تساؤل مستمرٍ وملحّ، لاريب الشعر تساؤل ، لكن النقد أكثر تركيزاً إذ يأتي بعد ما ينتهي الشاعر من عملية خلقه ويجلس مترقباً ، ومفكراً، الناقد وأعني الناقد المبدع وليس المتخشب، يضمُّ الشعر تحت جناحه ويبدأ برسم أفقٍ.
- لوحظ تقديمك لعشرات من كتاباتك الناقدة لعديد من الشعراء والشواعر من كافة أقطار الوطن العربي في الفترة الأخيرة، تختلفُ هذه المقدّمات بعضها عن بعض اختلافاً كلياً لهذا الشاعر، أو ذاك، أو لهذه الشاعرة، وتلك لا تتشابه إحداها مع الأخرى على الإطلاق ما يجعل المرء مصاباً بالحيرة والدهشة معاً , كيف استطاعت الدكتورة نجاح إبراهيم أن لا تتشابه في كتابتها النقدية وأن تصل إلى هذا التميز المدهش الجامع بين القدرة في الوصول إلى هذه المرحلة من الرقي وبين الفعل في المتميز المعطى ؟
ج- كنت كلما قرأتُ ديواناً لأضع مقدمته، أعيش فضاءاته اللازوردية، وبعد أن أمتصّ جمالياته ، أبدأ بالكتابة بأسلوبٍ يتلاءم مع ارتقائه، وأعتقد كما يعتقد كلُّ من يتابع كتاباتي أنّ السبب يرجع إلى مخزوني اللغوي الذي يشيد به معظم أدباء ونقاد الوطن العربي، أتمنى ألا يفسر البعض ما أقوله غروراً، فأنا أنقل ما قيل عن لغتي، ثم أترجم حالتي، لهذا أظنُّ أنّ المقدّمات تأتي على بساط من الدهشة والسحر إذ تطعّم بلغة عالية.
- بأيّ حسّ تكتبين القصيدة ؟ وهل هناك وقت أو مكان محددين لكتابة القصيدة لديك ؟ وهل يختلفُ الإحساس حينئذ عن الآخر عند كتابة الرّواية؟
ج- القصيدة لحظة انفعالية تشبهُ البرق، تأتي في وقت استثنائي لا يتسمُ بالتخطيط ، حدث ساخن وشاهقٌ ، يقودني إلى الورق لأنزفه كما هو في أي وقت ، ولو راوغتُ هذا الرّعاف، أو لجمته لاختنقتُ به وبفيوضاته. بينما الرّواية تأتي كسيدة مشرئبة، كفكرة ثم أقدّم لها الشخصيات والمكان والزّمان ، فترتدي أوجهاً عدّة ، أشكالاً وهيئاتٍ ، ذلك لأنها تسستوعب وقتاً لرقصتها، أو أناشيدها،ولأنها تشتركُ مع أجناس أدبية عديدة.
إنّ كتابة النّص الرّوائي يحتاجُ تفكيرا وتأملاً في صبّ الأحداث، بينما القصيدة فتأتي كشهقة.
نعم أنا لا أكتب في أيّ مكان سواء كانت قصيدة أم رواية أم قصة، لي طقوس خاصة في كتابتي ، لكن ممكن أن أسجّل الفكرة أو الشهقة كمخاض في أي مكان.
- متى يتوقف العطاء الإبداعي بشتى صوره لدى المبدع ؟ وهل يشيخ الإبداع كصاحبه عند سن معين ؟ وأي المدارس الشعرية أقرب إليك ؟ ومن كان له النصيب الأوفر في التأثير على تجربتك الشعرية خلال عمرك أو مشوارك الإبداعي الأدبي المدهش ؟
- ج- العطاء كما النبع لا يتوقف، ولكن مع الزّمن قد يدهمه فتور – عند البعض- بسبب تقدّم العمر ومتطلبات الشيخوخة من وهنٍ ومرضٍ، ولكنني أضرب مثلاً وهو الدكتور عبد السلام العجيلي الذي وصل إلى مرحلة متقدمة من العمر وظل يكتبُ ويعطي ، وإن كان العطاء ليس كما هو في الخمسين.
- أعتقدُ أنّ المدرسة الواقعية التعبيرية هي الأقرب إلى كتاباتي، وإن كنتُ لا أتبع أياً منها.
لم يكن لأحد من الشخصيات الأدبية لها تأثير في تجربتي الشعرية، وإن كنت قد أعجبت بسرد جبران خليل جبران، أما الشعر فلا أجدني أيمم حبري صوبَ أيّ شاعر لأقتفي خطاه، أو ليبارك هو خطوي.
- عرفت سورية بأدبائها الكبار (أعلام الأدب العربي) ما الذي يميّز سورية بهذا الجانب عن تلك الأقطار الأخرى قلاع الأدب في العصر الحاضر , كمصر والعراق ولبنان واليمن ؟ ولماذا يغيبُ أدب المغرب العربي في هذا السياق ؟
- ج- سورية كغيرها من الأقطار العربية، ترشح أعلاماً وأدباء يرفعون شعلة الثقافة والأدب في هذا العصر وغيره، ولا أظنّ أنها تتجاوز العراق مثلاً بمبدعيها، على العكس أشعرُ أنّ العراق في هذه الآونة هو المتقدم إبداعياً على الرّغم من حروبه الكثيرة ومصائبه المتعددة، وكوارثه المتوالية، خلاف سورية الآن ، وأجزم أنّ السبب يكمن في كثرة الملتقيات والمهرجانات والتكريمات التي تتأتى من الأدباء أنفسهم ، وتثمين الأعمال وتشجيعها ، بينما نحن الآن تقع الثقافة في قبضة مافية ، تشجّع على الشللية والاحتكار،و لهذا تراجعنا عما كنّا عليه قبل الحرب على سورية.
- أما لماذا يغيب أدب المغرب العربي في هذا السياق ، فلست متأكدة إن كان أدبه غائباً، ما أعرف أنّ المغرب يشتهر بالنقد الأدبي.
- حضورك المتوقد والطاغي يدلُّ على تعافي سوريا إلى ماذا ترجعين ذلك ؟
- حضوري الأدبي المستمر،هو رسالة أقدمها لوطني وإن دفعت الثمن غالياً، من احتراق وعذاب وصمود في وجه الظلام.ومع ذلك أعتقد أنّ يداً واحدة لا تصفق، وجناحاً يتيماً لا يشجع على الطيران. أنا أحفرُ كغيري من الأدباء- وإن كانوا على قلة- في الصخر في وطنٍ خانه الكثيرون، كنت ولازلتُ كامرأة تخوض العمل الأدبي في مجتمع ذكوريّ، إن غضضنا الطرف عن هذا الأمر يطلع لك مسؤول قيض له أن يكون على منبر ثقافي، وهو لايرى سوى نفسه إلهاً للثقافة والإبداع، وقد يكون أبعد ما يكون عن هذا الإبداع، فتراه يحمل مقصاً لبتر كل شخص لديه هوس الكتابة المتميزة، أعطيك مثلاً: حين فزت بجائزة عالمية عام 2016 أبى رئيس اتحاد الكتاب العرب في دمشق أن ينزل خبراً في جريدة الاتحاد عن فوزي، وبعد تدخل من أحد المقربين إليه رضخ للواقع الذي كان حرياً به أن يفتخر لأن كاتبة سورية فازت على مستوى عالمي ب17 مؤلفاً،
- يا عزيزي غيري من هذه الضغوطات ترك الكتابة وراح يسقي أشجار العوسج على السياج، فلا تقس حالة استمراري بالآخرين ، أنا عنقاء أولدُ كلما احترقتُ.
- وأظنُّ سوريتي ستتعافى من أشباه المثقفين وتنهض بالأدب رسالةً ومعجزة، خلنا أولاً نزف نصراً بقيادة رئيس شاب حارب دولاً من أجل أرض بلاده.
- قرأتُ مؤخراً لواسيني الأعرج الأديب الجزائري المهاجر بما يشبه الاعتراف بالسيرة الذاتية في روايته الشهيرة (ذاكرة الماء) القائل : بأنّ سن الأربعين وجد فيها نضجه الإبداعي البديع والطريق الأمثل ليكون مبدعاً ثم قيل لأحد الأدباء اليمنيين المشاهير بأنّ الإبداع من سنوات المرء المبكرة . ما ردك في كلتا الحالتين ؟
- ج- لا أوافق الأديب واسيني الأعرج على ما ذهبَ إليه من أن سنّ الأربعين تتسمُ بالنّضج الأدبي، أذكر أنّ الروائي الكبير حنا مينه قد بدأ مشواره الأدبي في الأربعين، وقد قدم أكثر من أربعين رواية للمكتبة العربية ، أظنّ ان الابداع يزداد تألقا ما بعد الأربعين وذلك للخبرة والتجارب التي يخوضها المبدع، وحسب اعتقادي أنّ مرجل العطاء يزدادُ توهجاً كلما أطعمناه حطباً، وما الحطب سوى القراءات والمواكبات، والتجارب التي تعدُّ وقوداً. بينما سنوات الكاتب المبكرة هي مجرد خطى على طريق طويل ، طويل.
- ما السؤال الذي كانت تودُّ الدكتورة نجاح إبراهيم أن أسأله لها في هذه الحوارية البديعة والفرصة السانحة ؟
- -ج- السؤال: هل شغلتك الحرب على سورية، عن مشروعك الأدبي؟ سأجيبك : على الرّغم من جحافل القهر والألم والحزن ، بقيتُ أكتبُ ، بل زاد عطائي الأدبي لأن حجم الألم زادَ، والحرب مادة زاخرة للكتابة ، تأتي الأفكار جماعات، وما على الكاتب سوى أن يعرف كيف يدير دفة الكتابة.
كتبت رواية عن الأحداث التي مرّت بنا خلالها، وتأثير الحرب على الشخصيات المختلفة التي اخترتها نماذجاً من المجتمع، فكانت رواية "لازال الحلم قائماً" وكذلك دواويني الثلاثة التي صدرت أثناء الحرب، تتناول احتراقاتنا، وما أصاب البلاد من بلاء ،وكمية الدّم التي روت الأرض، وأنهار الدّمع التي فاضت في أعين النساء.
وثمة مواضيع لو بقيت عمراً أكتبها لا أظنني أنتهي منها!.
شكراً سلفاً لما ما منحتينا من وقتك الثمين ,
ج- مودتي لشعب اليمن الصامد، والذي يقاتل في قضية ما كان له اليد فيها، ومع ذلك فإنه المنتصر ، لأنه على حق، والحق هو الدفاع عن الأرض والعرض.
وقد كتبت قصائد بصموده العظيم، وشدت حنجرتي لشهدائه، وأطفاله.